Sottoo3

شارك على مواقع التواصل

جريمة قتل على قطارالقاهرة ـ كيب تاون(الفصل الأول)  
جريمة قتل على قطار القاهرة
محمد عاطف محمد
مؤسسة سطوع
جميع الحقوق محفوظة ويحظر طبع أو تصوير أو تخزين أي جزء من الكتاب بأية وسيلة من وسائل تخزين المعلومات إلا بأذن كتابي صريح من الناشر







الفصل الأول
تعارف
في يوم الثلاثاء الموافق 6 أغسطس سنة 2030م في أحد شوراع القاهرة في يوم شديد الحرارة من أيام شهر الصيف يقف ( فريد ظاهر ) على جانب الطريق ينتظر سيارة أجرة حتى تقله إلى وجهته، وهو محقق جنائي في أواخر العشرينات من عمره طويل القامة يبدو من تقاسيم جسده أنه ضعيف البنية، يرتدي بذلة قديمة يبدو من مظهرها أنه فقير، ولكن يظهر من ملامح وجهه ذي الطابع الأوربي أنه غني، أبيض الوجه أزرق العينين .
يوقف إحدى سيارات الأجرة ويركب ويحدد وجهته " إلى القاهرة القديمة " ليدور بين السائق وبينه حوار :
ـ هل لك عمل في القاهرة القديمة لتستقل سيارة أجرة بدلا من المترو والوسائل الأخرى الحديثة ؟
ـ أنا محقق جنائي يا سيد وقد وقعت جريمة قتل في أحد أحياء القاهرة، وأنا على عجلة من أمري، ولا توجد وسيلة أسرع من هذه للوصول إلى وجهتي .
ـ إذن ما زالت السيارات التقليدية لها فائدتها في هذا الزمان .
ـ ماذا تقصد ؟
ـ أنت ترى يا سيادة المحقق كثرة وسائل النقل في بلدنا في أخر سبع سنوات، خطوط مترو جديدة وقطارات كهربائية ومنوريل وأتوبيسات ترددية وقطار بين العين السخنة والعلمين الجديدة وأخيرا قطار القاهرة ـ كيب تاون ، كل هذه الوسائل قد قللت من فرص عملنا وكسب قوتنا اليومي، لقد تدمرنا حرفيا .
ـ وهل قطار العين السخنة والقاهرة ـ كيب تاون يدخل تحت دائرة عملك ؟!
ـ يا فندم .....
يقاطعه المحقق ( فريد ) :
ـ سأشرح لك بكل سهولة : التطوير لابد منه ؛ لأنه يقلل من أعباء الحياة على كثير من المواطنين ، وهم أضعاف أضعاف عدد سائقي الأجرة ، ويوفر فرص عمل أخرى في القطارات والمحطات إلى غير ذلك ، ويعدد من وسائل المواصلات أمام المواطن حتى يكون أمامه عدة خيارات بناء على رغبته وقدرته المالية، وللتطوير ضريبة يظهر أثرها السلبي على عدد من الناس ، وله جانب إيجابي على الفئة الغالبة من الشعب، فلا يمكن أن يترك التطوير الذي يستهدف الملايين من أجل بضع عشرات أو مئات من الناس وعليهم أن يفهموا ذلك .
ـ يبدو أن الأثرياء لا يمكنهم فهم معاناة الفقراء أمثالنا .
ـ من تقول عنه أنه ثري عنده قدرات عقلية خاصة ومتخرج في عدة كليات آخرهم الحقوق ، وهدفي الآن أن أعمل محققا ، لكن كل الأبواب أغلقت في وجهي وكلما ذهبت إلى مسرح جريمة لا يتركني أحد لاستجواب المشتبه بهم أو رؤية الأدلة مع أن معي بطاقة تثبت إجتيازي لاختبار المحققين وكأن الأبواب تغلق عن قصد .
ـ هل رأيت ؟ لا يمكن حتى للأذكياء أمثالك أن يعيش في هذا البلد .
ـ يبدو أننا لن نتوصل لأرضية مشتركة دعك من الحديث وأوصلني إلى وجهتي .
ـ هل سمعت عن فرصة اليوم المتعلقة بقطار القاهرة ـ كيب تاون ؟
ـ لا ، ما هي ؟
ـ قالوا إن هناك فرصة مجانية لركوب القطار والذهاب لرحلة إلى جمهورية أوروميا والعودة بعد يومين وكل ما عليك الدخول إلى محطة القطاروتدخل على عجلة الحظ في ماكينة قطع التذاكر .
دار في عقل المحقق ( فريد ) كم المعاناة التي واجهها وما سيلاقيه إذا ذهب إلى مسرح الجريمة ودار في عقله احتمالان : الأول : أنه سيحصل على التذكرة المجانية ويذهب إلى هذه الرحلة الفريدة ، والثاني : لن يحصل عليها وبالتالي عليه التوجه إلى القاهرة القديمة ، وأجاب السائق : اتجه إلى المحطة وعليك أن تنتظرني في الخارج ، إن لم أخرج بعد خمس دقائق فعليك الرحيل .
استجاب السائق وغير وجهته إلى محطة قطار القاهرة ـ كيب تاون .
يصل المحقق إلى المحطة ويعطي السائق أجرته تحسبا إذا لم يخرج وينطلق لاختبار حظه هذه المرة .
يدخل المحقق ( فريد ظاهر ) إلى محطة القطار ويبدأ في البحث عن خيار عجلة الحظ لهذا اليوم ، ثم يجده ويدير العجلة وتحدث المفاجأة السارة : قد حصل على تذكرة مجانية .
ينظر في موعد الرحلة ويجدها ستنطلق بعد دقيقة ، وقال في نفسه : يبدو أنني لن أتمكن من الوصول في الوقت المناسب حتى بعد الحصول على التذكرة المجانية ، ويضع يده على وجه من الاستياء ولكنه في اللحظات التالية يقرر الهرولة مسرعا لكي يلحق القطار .
وبعد ثلاثين ثانية من الهرولة بأقصى سرعة يصل إلى مكان القطار وتكون في انتظاره إحدى مضيفات القطار لتعطيه قفازين .
ـ أنا أرتدي قفازين بالفعل شكرا ، ولكن لماذا تعطون الركاب قفازات ؟
ـ انتشر فيروس يسمى ( M2 ) في دول شرق أفريقيا بدأ من أريتريا ، وينتشر هذا الفيروس باللمس فقط ، ولا يمكن أن نمنع الركاب من فتح النوافذ إلا في حالة وجود أمطار غزيرة أو عواصف رملية ؛ لذلك أخذنا هذا الإجراء الاحترازي .
قال لها وهما يدخلان القطار : ـ هل يمكن فتح النوافذ مع سرعة القطار العالية ؟ قرأت أنه يسير في العادة بين 350 ـ 400 كم / ساعة .
ـ هناك نافذتان أعلى بعضهما فلو فتحت النافذة العلوية ، والتي تكون أعلى من مستوى رؤوس الركاب ، فيمكن تغيير هواء القطار بهواء لطيف يأتي من الخارج وبالأخص من الأماكن النيلية والزراعية التي نمر عليها ، وفي هذه الحالة لا يتضرر الركاب .
ـ حسنا ، شكرا لك .
ـ العفو يا فندم ، رحلة ممتعة .
يتكون القطار من سبع عربات خمسة منها للركاب وواحدة للسائقين وواحدة للأطعمة والأشربة وبين كل عربة يوجد مكان مخصص لقضاء الحاجة ( WC ) ، وهناك مقصورة صغيرة في آخر القطار للطبيب المرافق للقطار ، وبين كل عدة عربات يوجد شرطي بتعداد ثلاثة من رجال الشرطة ويسير القطار بمبدأ التنافر المغناطيسي استغلالا للفائض الكهربائي الكبير الموجود في مصر والسودان ودول شرق أفريقيا وتوفيرا للغاز والنفط وحماية للبيئة ، وقد تم إنشاؤه بالتعاون بين مصر وألمانيا .
يتكون القطار من عدة عربات مختلفة الرتبة : الأولى منها عربة السائقين والثانية عربة الدرجة الأولى والعربة الثالثة للدرجة الثانية ثم عربة الأطعمة والأشربة ثم عربات الدرجة الثالثة .
وجد المحقق ( فريد ) مكان تذكرتـه في الدرجة الثانية وذهب للبحث عن مكانه . وجد مكانه على الصف الأيمن المكون من كرسيين متقابلين ، وهكذا الصف كله أما جهة اليسار فهي متكونة من كرسيين متجاورين ، وهكذا إلى آخر الصف . وتوجد شاشتي عرض كبريتين متقابلتين أعلى البابين في أول العربة وآخرها تعرض أشياء محددة من قبل الحكومة المصرية، لتغيير الصورة المعتادة عنها عند الركاب مختلفي الجنسيات في الغالب، وتعرض أشياء هادفة مدروسة بعناية عن التاريخ المصري، وغيرها من الأشياء .
في كل عربة توجد مضيفة تشرح للركاب الأماكن التي يمرون عليها، وتجيب عن استفساراتهم، وتبدأ المضيفة الحديث بخط سير القطار فتقول:أهلا ومرحبا بكم على متن قطار القاهرة ـ كيب تاون ، نرجو أن تكون الرحلة ممتعة ، خط سير القطار يبدأ من القاهرة مرورا ببعض المحافظات المصرية ثم السودان ثم أريتريا ثم جمهورية التيجراي التي استقلت سنة 2025 م ثم جمهورية العفار التي استقلت سنة 2026م ثم جمهورية أروميا التي استقلت سنة 2025م وبهذا تنتهي المرحلة الثانية من القطار .
يسألها أحد الأطفال المشاركين في الرحلة :
ـ ما هي كيب تاون ؟ وهل سنذهب إليها ؟
ـ كيب تاون هي عاصمة دولة جنوب أفريقيا ، وهي آخر دولة في جنوب الشرق الأفريقي ، ولن نذهب إليها ولكن رحلتنا تنتهي عند جمهورية أروميا ، وسمي القطار بهذا الاسم ؛ لأن المخطط أن القطار سيصل إلى جنوب أفريقيا إن شاء الله
في هذه الأثناء كان بمقابل المحقق فتاة حسناء عليها ملامح الرزانة والأدب والعلم ، وطولها قريب من طوله وترتدي حجابا
(بالمفهوم المصري) وثوبا فضفاضا واسعا يدل على أثر التدين ، وممسكة بكتاب في علم نفس الجاسوسية ويبدو أن هذا التعيس
( فريد ) قد بدأ القدر يريه شيئا جميلا تعويضا عن كل ما فاته وجبرا عن ما قاساه من آلام ينطق، لم يستطع أن يبدأ الكلام من شدة توتره، لم يشعر بهذا الشعور من قبل، ولم يتوتر كهذا التوتر أبدا
يفاجأ بأنها هي التي بدأت بالكلام وبدأت بالتعريف عن نفسها ـ الدكتورة ( مروة ) دكتوراة في علم النفس من كلية الآداب جامعة القاهرة سعدت بمعرفتك وأرجو أن تكون رحلة موفقة وممتعة .
تعجب ( فريد ) من ابتدائها بالحديث معه بدون سابق معرفة ودارت في عقل المحقق احتمالات كثيرة أراد ان يقطعها باليقين ليبدأ الحديث عن نفسه أنا المحقق ( فريد ظاهر ) حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة أسيوط ، وحصلت على عدة كليات ولكن لم أوفق للعمل بإحداها ، وها أنا ذا أحاول العمل كمحقق
يبدو لي من نبرة صوتك وملامح جسدك ومن مظهر ملابسك ومن حدثيك عن نفسك أنك فاشل كبير، ولم تحقق شيئا في حياتك ويبدو أنك في أواخر العشرينات من عمرك، ومن في سنك قد بدأوا حياتهم واقتربوا من أن يصبح لهم شأن كبير .
انفجر عقل ( فريد ) من شدة الغضب وكأنه أخطأ خطأ كيبرا عندما قرر الحديث مع هذه الفتاة التي ترى نفسها تعلم حياة الناس من نظرة واحدة ولكنه كبح جماح نفسه وأطلق لعقله عنان التفكير حتى يلجم هذه المتعالمة بعلمها
ـ كلامك صحيح من وجه : وهو أنني لم أحقق شيئا في حياتي ويبدو أن تحليلك لي عن طريق قدم ملابسي ونحافة جسدي وانخفاض صوتي هو صحيح ولكنك أخطأتِ عندما نعتني بالفاشل الكبير ، فلا يحق لك ولا لغيرك أن يحكم علي ولا على أحد آخر بالفشل ما دام حيا وما دام هناك نفس في جسده ، ويحق لك ولغيرك أن يحكم على الناس بالفشل في حالة واحدة ، وهي حالة الموت، ساعتها يمكن أن نرى ماذا حققه في حياته وبناء عليه نحكم عليه بالنجاح أو الفشل .
أرادت أن تقاطعه ولكنه أكمل ـ وهل تعلمين ما مررت به في حياتي حتى تقولي هذا الكلام ! لن أفعل كما فعلتِ وأحكم عليك بالنجاح لتوافر أسباب النجاح ولكن سأدعك تحكمين على نفسك بنفسك
سكتت ( مروة ) نصف ساعة بدون كلام جرى خلالها حوار سريع بين ( فريد) وبين زوجين في الستين من عمرهما ( جمال ) و ( فريدة ) كانا بمقابلتهما(جمال ) رجل يظهر من بريق ملابسه أثر الثراء الفاحش ، شعره أبيض ناعم من شدة اعتنائه به ، حليق اللحية ذو شارب خفيف ، وجهه ممتلئ حتى أسفل ذقنه ، كأن كيسا دهنيا قد ملئ أسفل ذقنه ، ملابسه من البذلة والقميص والبنطال مختارة بعناية حتى تتناسب مع بدانة جسده الذي امتلئ بالمال أما زوجته ( فريدة ) فيظهر على شعرها أثر حديث للصبغة السوداء ، تخفي من خلالها أثر السن وتضع مساحيق التجميل بطريقة تظهرها كأنها في الأربعين من عمرها ، ترتدي كثيرا من الحلي ؛ لتتباهى به أمام الناس :
ـ كيف يركب أمثالك قطارا باهظ الثمن كهذا ؟! ويركب أيضا في الدرجة الثانية ! وفي مقاعد خاصة داخل الدرجة ونحن سمعنا من حديثكما أنك فاشل وفقير ، فكيف حصلت على المال ؟!
دار في عقل ( فريد ) أن هذا اليوم لن يمر بسلام حتى لو أخذ تذكرة باهظة الثمن كهدية فسيجري حظه السئ وراءه إلى أي مكان يذهب إليه ، ولكنه صرف كل هذه الوساوس ليرد عليهم بما يستحقونه :
ـ أيها السيدان يبدو أنكما من طبقة راقية وثرية ، وغالب هذه الطبقة ينظرون لمن ليس في مثل مستواهم إلى أنهم كائنات أدنى وهذا لا يجوز أن يصدر من إنسان متدين أو متحضر مثقف .
ـ وما علاقة الثقافة بهذا يا محقق ؟!
ـ الإنسان المثقف الذي تثقف ثقافة صحيحة يعلم يقينا أن قيمة المرء ليست بماله ولا بجاهه ولا بمظهره ولكن بعلمه ، وليس كل علم يُعلي من قيمة حامله وإنما العلم النافع هو الذي ينتفع به شخصيا وينفع الناس ، وهو الذي يجعل المرء متواضعا فكلما زاد علمه زاد تواضعه وقل إنكاره .
قال السيد ( جمال ) مستهزأ
ـ يبدو أنك فيلسوف أيضا أيها المحقق .
ـ ويبدو أنك لن تقتنع بغير وجهة نظرك حتى تحتاج للمحقق الفيلسوف في يوم من الأيام .
ـ وما الذي سيحوجني إلى أمثالك ؟!
نظر إليه نظرة تغيرت معها ملامح وجهه وألقت الرعب في قلب
(جمال ) الثري وقال بلهجة مليئة بالسخرية
ـ عندما يقتل أحد أفراد أسرتك ، ولا تعلم من الفاعل ،
ستأتي إلي متوسلا
سكت بعدها ( جمال ) وزوجته ( فريدة ) وكأنما ألقي في فهمها حجرا .
نظرت إليه ( مروة ) بدون أن يدري وابتسمت وكأنها قد توقعت أن يصدر منه هذا الفعل
بعدها ظل عقل المحقق منشغلا في ابتكار القضايا والبحث عن طريقة لتنفيذها وأفضل الطرق التي تجعل الجريمة شبه مكتملة ومثالية حتى قاطعته ( مروة )
ـ ولكنك لم تخبرنا كيف ركبت القطار وأنت معدم ، هل سرقت المال لذلك تهربت من الإجابة ؟
نظر إليها متضايقا ؛ لأنها قطعت حبل أفكاره وعادت إلى إزعاجه مرة أخرى :
ـ لم أتهرب من الإجابة ولم أسرق المال ، ولكنني نسيت أن أجيب عن هذه النقطة وباختصار أخبرني بذلك سائق سيارة الأجرة الذي أقلني إلى المحطة
ـ أليس من العيب على محقق مثلك ألا يعرف خبرا مشهورا كهذا .
ـ لا أهتم بأمور الأغنياء
ـ هذا خطأ أيها المحقق ، هذا جزء من عملك فيمكن أن يكون مفتاح القضية في مكان عام لا يخطر على بال أحد ، ويمكن أن تتواجد فرص لكي تظهر نفسك من خلال شئ ، هو تافه من وجهة نظرك ؛ لذلك يجب عليك أن تكون على اطلاع دائم بكل شئ
ـ كلامك له شبه بعمل أجهزة الاستخبارات
ـ نعم فأغلب دراستي النفسية التخصصية متعلقة بجانب الجريمة والجاسوسية، وعمل أجهزة الاستخبارات لا يقتصرعلى جمع المعلومات من المصادر السرية بل هناك فرع في كل جهاز لمتابعة ودراسة وتحليل المعلومات العلنية التي تصدر من الدول الأخرى
ـ يبدو أنك تعمقت في دراسة عمل الأجهزة
ـ نعم،وهذا جزء من عملي أن أحيط بموضوع الدراسة من كل جوانبه حتى يصدر التحليل النفسي السلوكي بصورة دقيقة
على العموم أنت على صواب هذه المرة ، أنا أخطأت ويجب عليَ أن أكون أكثر معرفة وحرصا في الأيام القادمة
لابل في الدقائق القادمة ،يجب أن تكون متيقظا وحذرا على الدوام،أليس هذا جزء من عملك ؟
ـ نعم كنت أقصد ذلك ، ولكن عبرت بالأيام مجازا .
ـ هذا نفسيا غير سليم ؛ لأنه سيؤثر في عقلك الباطن ومن ثم يؤثر على سلوكك بعد ذلك فيؤدي بك إلى الكسل وربما الاكتئاب .
ـ معك حق با بروفيسورة
في هذه الأثناء مر القطار على نهر النيل الخالد ؛ ليظهر جمال أرض الكنانة وأصل الحضارة وملتقى الأديان ومجمع القيم والثقافات ، وتنعكس أشعة الشمس على سطح مياهه راسمة لوحة فنية كأنها بقعة من الذهب ، وعلى ضفافه خضار الزرع والنخيل ليبقى دائما هو أقدم شاهد ومؤثر على بقاء مصر خالدة إلى يوم الدين .
شرحت المضيفات معلومات عن نهر النيل وأنه يتكون من النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في جمهورية الأمهرة وكذلك من عدة أنهار تنبع من أماكن متفرقة في أثيوبيا ـ سابقا ـ وهي نهر عطبرة ونهر السوباط ونهر القاش ، وكذلك من النيل الأبيض الذي يصب من بحيرة فيكتوريا في أوغندا وكيف قامت الحكومة المصرية في السنوات الماضية بزيادة حصة مصر من مياه النيل من 55.5 مليار متر مكعب إلى 70 مليار متر مكعب في تحد واضح ، وجهد كبير أمام دول العالم ، وأوضحت أن بقاء مصر مرتبط ببقاء النيل ، وقد بقي رغم أنف المدبرين والغاصبين
في عربة الدرجة الأولى لا يوجد إلا أربعة رجال والمضيفة : واحد مصري وتركيان وأريتري ، الرجل التركي الأول هو
(سلجوك أوغلو ) رجل طويل القامة متوسط البنية أبيض الوجه في منتصف الثلاثينات من عمره يرتدي بذلة أنيقة رمادية تليق بمكانته، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة مرمرة في أسطنبول وتلميذ رئيس الوزراء التركي الأسبق ومؤسس حزب الغد
( محمود سليمان أوغلو ) أتى إلى مصر للسياحة مع تلميذه المصري الذي يجلس معهم في عربة الدرجة الأولى ، ومن ثم لأخذ جولة سريعة في دول متعددة بالقطارالسريع القاهرة - كيب تاون
والرجل التركي الثاني هو ( هاكان صويلو ) الحارس الشخصي ل
( سليمان أوغلو ) وبالطبع طويل القامة وتظهر ثيابه أنه مفتول العضلات أبيض البشرة يحمل في خاصرته مسدسا مرخصا له حمله من قبل الداخلية المصرية .
والرجل المصري هو ( سليم سالم ) تلميذ ( سلجوك أوغلو ) رجل ذو ملامح مصرية عتيقة أسمر الوجه متوسط الطول يرتدي قميصا أسود اللون درس في تركيا خمس سنوات في كلية العلوم السياسية في جامعة مرمرة يحمل معه حقيبة جلدية بها بعض الكتب للمدارسة مع أستاذه في الطريق .
والرجل الرابع الأريتري هو ( ملس زيناوي ) نحيف الجسد طويل القامة أسود البشرة يرتدي قميصا أبيض اللون .
يجلس ( سلجوك أوغلو ) على أحد الكراسي في جهة اليمين ويجلس خلفه حارسه ويجلس بمقابلته ( ملس زيناوي ) ويجلس خلفه بكرسي واحد ( سليم سالم ) والمضيفة كالعادة تقف في بداية العربة .
وتتميز هذه العربة بكراسيها المنفردة والتي يمكن أن تتحرك في كل الاتجاهات وليست ثابتة كبقية كراسي القطار .
كلهم يتحدثون الإنجليزية جيدا مع إجادة ( سليم سالم ) للتركية فقد عاش في تركيا خمس سنوات ويبدأ الحوار بين التلميذ واستاذه بالتركية :
ـ هل أعجبتك مصر يا أستاذي ؟
ـ نعم بالطبع أعجبتني ، وأكثر ما أعجبني فيها هو أنت
يا ( سليم ) وينظر إليه نظرة شيطانية .
بتردد وتعجب وملامح يظهر عليها الخوف
- أنا ؟ ما الذي أعجبك في ؟
تدارك الموقف وقال :
- اسمك هو نفس اسم جدنا السلطان سليم الأول ، الذي فتح مصر من قبل .
ـ وهل كانت مصر كافرة قبل دخول السلطان ، يا أستاذي ، حتى تسمون هذا الاحتلال أو الحكم فتحا ؟! وهناك سؤال آخر أردت معرفة إجابته منذ أربع سنوات .
ـ ما هو ؟
ـ كيف تنظرون إلى البلاد التي كانت تحت الحكم العثماني لفترة من الفترات ؟ هل هو إرث يجب عليكم استرجاعه أم فترة زمنية ومضت ؟
ـ لماذا تقول هذا الكلام يا ( سليم ) نحن كلنا مسلمون ، لا يجوز أن نفكر بهذه الطريقة .
ـ يا أستاذي ، نحن لم ولن ننسى ما فعلت دولتك منذ بداية العقد الماضي وحتى تم التصالح والتطبيع بيننا وبينكم ، لذلك أريد أن نخرج من هذا النقاش بفائدة ونتكلم بموضوعية وشفافية .
ـ حسنا ، الأتراك منقسمون فيما بينهم في هذه النقطة فالذي يعتد بالقومية التركية فقط بدون النظر إلى شئ آخر لا يرى أن هذا إرث لهم ، ولكن يحلمون بالعالم التركي الكبير الذي يضم أصحاب العرق التركي بداخله ، وأما العلمانيون فلا يعترفون إلا بحدود الجمهورية وبعض القضايا المتعلقة بها كقبرص ولواء الأسكندرون وحقوق تركيا في جزر البحرالمتوسط ، وأما نحن أصحاب الخلفية الإسلامية العثمانية فنرى أنه قد تم إرغام الخلافة على التنازل عن ممتلكاتها من البر والبحر لذلك تلك البلاد التي كانت قابعة تحت الحكم العثماني يجب أن ترجع إلى تركيا بما أنها الوريث للخلافة مع الاتفاق على توسيع دائرة البلاد التي كانت تحكم الدولة العثمانية إلى بلاد العرق التركي
ـ يبدو أنك تأثرت جدا بأستاذك ( محمود سليمان أوغلو ) ، حتى أنك فرضت علينا في أحد المقررات أن نقرأ كتابه ونلخصه في مائة صفحة وتناقشنا فيه .
ـ بالطبع ، كان الأستاذ له أكبر الأثر في تكويني ، حتى أنه طور من نظريته عندما دخل عالم السياسة في العام التالي من تأليفه لهذا الكتاب، ولم يبق الأمر خفيا فقد شاركوا في المخطط الأمريكي
( مشروع الشرق الأوسط الكبير ) كي نحقق الأهداف التركية لا الأمريكية .
ـ لا تمزح يا أستاذي، فالمخطط الأمريكي مبني على الأهداف التركية المعلنة والسرية، وقد نصح صامويل هنتنجتون القادة الأمريكان بذلك
قاطعهم ( ملس زيناوي ) الأريتري منفعلا بالإنجليزية :
- ألا تجيدون التحدث بالإنجليزية ! لماذا لا تتحدثون بها حتى نتشارك الأحاديث في الطريق ، أخطأت عندما أتيت منفردا .
قال له الأستاذ ( سلجوك ) : - ما اسمك إذا أيها الفتى الغاضب ؟
- ( ملس زيناوي ) من أريتريا
- يبدو أن أباك سماك باسمك هذا تيمنا بالقائد التيجراوي
( ملس زيناوي ) ألست من التجراي ؟
- نعم أصلي من التيجراي .
- ما رأيك في التغلغل الروسي في أريتريا ؟
- لا أحب الكلام في السياسة.
- ألست من أراد الحديث ؟!
- لو كنتم تريدون الحديث عن السياسة فلا أريد .
- ما رأيك يا دكتور في الوضع الروسي - الأريتري ؟
- أريتريا أشبه بمستعمرة روسية ، يبدو أنه بعد موت
( سيرجيو لوكا ) من أربع سنوات وتولي ضابط مخابرات ( KGB ) العميد المتقاعد ( ألكسندر ميخائيل) قد تغيرت سياسات روسيا في شرق أفريقيا لمنافسة الوجود المصري والتركي فأصبح اللعب هناك أكثر خشونة .
- لماذا أنت صامت يا ( هاكان ) ألن تشاركنا الحديث ؟
- ليس من عادة الحراس الحديث أثناء فترة عملهم .
- ليس عليك أن تكون بهذا الحذر فنحن وسط الصحراء وننتقل من مدينة إلى مدينة ومن دولة إلى دولة ولا يوجد من يريد اغتيالي هنا ، قالها وهو يضحك .
- هذا عملي يا دكتور ولا أحب المشاركة في حديثكم ؛ لأنني لا أتفق معك فيما تقول ، فلست قوميا ولا صاحب خلفية إسلامية ، فانتمائي للجمهورية وللعلم التركي فقط .
- كما تحب.
بعد مرور بعض الوقت يمر القطار من على نهر النيل ليرى غير المصريين فيه جمال هذه البلاد والفارق بين أنهارهم ونهرنا الخالد وتبدأ المضيفة بشرح معلومات عن نهر النيل
- ما رأيك يا دكتور ؟ ألم تعاونوا جمهورية أثيوبيا في هجومهم على التجراي ؟ حتى لا تضعف الدولة ويكون إسقاطها من قبل مصر والسودان أكثر سهولة ، وقدمتم لهم يد العون في بناء سد النهضة على غرار السدود التي جففتم بها دجلة والفرات في الماضي ، ويظل القرار السياسي في أيديهم حتى تنفذوا ما تريدون ، ها هو ذا نهر النيل الخالد شاهد على فشلكم وتآمركم .
- كانت سياسة مرحلية خاطئة ، السياسة الصحيحة هو التعاون مع الأشقاء في مصر للوصول إلى حياة كريمة للشعبين .
يضحك ( سليم سالم ) بشدة ويقول : - أرى أنك أيضا تستخدم المصطلحات المصرية أيضا ويبدو أن الخط الأحمر الذي رسم لكم في ليبيا لم تتوقعوه . قالها وهو يقهقه .
سكت الأستاذ قليلا حتى أكمل ( سليم ) :
ـ وبالطبع كان تحرككم هذا في وقت ملئ السد حتى تشتتوا القيادة المصرية ، لكن عندنا صقور لاتنام ، وأسود لاتهزم ، وها هي ليبيا بقيت لليبيين لا وجود فيها لفرنسا ولا لروسيا ولا لكم
وبوجه يبدو عليه ملامح الحزن ولكنه يعرف جيدا كيف يجيد التمثيل يقول الأستاذ ( سلجوك ) :
- لقد كانت كل سياسات تركيا الخارجية المتعلقة بالشرق الأوسط خاطئة ؛ لذلك نحن الآن نصححها ونتعاون لنتكامل فيما بيننا .
- معك حق والاعتراف بالحق فضيلة يا دكتور .
مضى بعض الوقت ليسمع جميع ركاب الدرجة الأولى والثانية بأن عليهم التوجه إلي عربة الطعام ؛ لأنه حان وقت الغداء .


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.